...جيري سبرينجر



أول قيصر احكي عنه يبدو كأنه جاء من عصر بيزنطة ، فقط ينقصه اكليل لغار
يبدو كأنه حكيم اغريقي أو معلم الاسكندر علي أقل تقدير
دعوني اقدمه لكم " جيري سبرنجر" ، عمدة سابق
لكن هذا الحكيم يقدم برنامجاً يحمل اسمه ، ويفتخر في بدايته بانه لم يحصل علي أية جائزة مهما كانت ، ويقول في سخريه " ومن يهتم بهذا طالما أنه ربح الملايين"
يبدأ البرنامج بأصوات عشرات المشاهدين الحاضرين داخل القاعة وهم يهتفون باسم " جيري" ويلوحون بقبضاتهم لدقائق
تماماً كما كانت حلبة الكوليسيوم ترتج باسم القيصر قبل دخوله
لكن جيري أكثر تواضعاً ، فهو يدخل ويبدأ في مصافحة عدد من الحاضرين بطريقة الحملات الانتخابية التي يملك فيها باع طويل
يظهر جيري وسط عدد من الحراس العمالقة ، الذين يتوزعون علي المسرح الذي يستعد لاستقبال الضيوف فيما يتحرك جيري بين المسرح والقاعة حيث الجمهور
يستضيف البرنامج أشخاصاً عاديين يقدمون قصة أو موقفاً شخصياً ، يرغبون في عرضه ،ومساعدتهم علي اتخاذ موقف
عادة ما يتم البدء بضيف واحد ، لكن غالباً ما ينضم إليه باقي أبطال القصة ، ويتركز ذلك علي ثلاثي ( الرجل / المرأة/ العشيق-العشيقة )
وفي ضوء التطورات الكبيرة في مجتمع روما الحديثة ، فان ذلك الثالوث يمكن أن يكون رجلان يتنازعان علي امراة ، او امراتان تتنازعان علي رجل ، او رجلان يتنازعان علي رجل ، او امراتان تتنازعان علي امراة ، او رجل وامراه يتنازعان علي امراة ، وهكذا الي أخر نظرية الاحتمالات
تتضمن تلك القصص بدايات رومانسية وتطورات قاسية اساسها الخيانة ، يتم طرحها بوقاحة تامة علي الجميع ، وتبدأ المواجهات حينما يستدعي باقي الأطراف ، وهنا يحمي الوطيس
غالبا ما يرتدي الرجال قمصاناً بأكمام طويلة وربطات عنق زاهية الألوان ، ولهذا فائدة تظهر لاحقاً
يستخدم البرنامج عدداً من المؤثرات الصوتية للسخرية من الضيوف ، لكن أبرزهاً جرساً كالمستخدم في حلبات المصارعة ، وحينما يدق يبدأ الجمهور بالصراخ ، ويرخي الحراس العمالقة قبضاتهم ويسمحون للضيوف بالتشاجر بينهم ، ويمثلون أنهم يحولون بين الضيوف ، فإن كانوا رجالاً ترتخي ربطات العنق ، وتخرج القمصان من السراويل وتنقطع الأزرار ، ليبدو أن المعركة حقيقية ( وهوما لم يكن ليظهر لو ان احدهم ارتدي تي شيرت وجينز )
وان كن نساء ، ونظراً لأن البرنامج يذاع في وقت عادي ، يتم اللجوء للرقابة الفنية باخفاء ما قد يظهر من أجسامهن نتيجة للعراك الطاحن
ومن الطبيعي أن يسيطر صوت الصفير المستخدم للتغطية علي الألفاظ الخارجة علي الحوار ، كما أنه من الطبيعي أن تصفع المراه رجلها الخائن ، لكنه لا يستطيع أن يفعل المثل والا تدخل العمالقة الأشداء للبطش به ، كما لا يسمح للضيوف بالعراك مع الجمهور ، ويكتفي بالتنابز بالألقاب ، الذي يجعل البرنامج شبيهاً بمدرجات الدرجة الثالثة التي تتفنن في سب لاعبي الفرق المنافسة بأقذع الألفاظ
في البداية ينحصر دور القيصر جيري علي التعريف بالضيف ، ثم تقديم القصة ، وفور دخول الشخص الثاني ينسحب جيري بعيداً وسط الجمهور ، حتي يضمن بعده التام عن أي صراع يقع
ومن ثم يترك الضيفين يتفاعلان ، وقد يتدخل لإشعال الصراع ان كان هناك اتجاه للتهدئة ، وبعد حدوث أول مشاجره يقوم بالسماح للجمهور بتوجيه أسئلة للضيوف ، كلها من نوعية الإساءات المشينة ، حتي أن أي سؤال عادي أو موضوعي يواجه بهتافات من قبيل " اذهب إلي أوبرا" !!!
ويلعب الجمهور دوراً كبيراً في زيادة عامل الإثارة بالبرنامج من خلال توجيه أكبر قدر من الاساءات والاستفزازات للضيوف ، بداية من هتافات جماعية تتهم الضيف بأنه " خاسر" أومغفل ، أو أبله ، وتتهم الضيفة بأنها عاهرة ، أو خنزيرة أو فرس نهر
ومن المعتاد أن تتطوع احدي الحاضرات بالكشف عن صدرها للحضور ، أو تقديم رقصة علي المسرح من نوعية نوادي التعري ، وهو ما يقابل باستحسان كبير من الحضور
وفي نهاية الحلقة يصطف كافة الضيوف علي المسرح ويجلس جيري علي مقعد مرتفع / العرش / ليلقي كلمة حكيمة عن أهمية القيم والأخلاق ، وان الالتزام بها هو السبيل الوحيد للنجاح في الحياة
وهكذا تكتمل خلطة الإثارة المطلوبة لنجاح البرنامج ...
تماماً كالخلطة التي انجحت حفلات الكوليسيوم الصاخبة منذ مئات السنين
قصص خيانة – الفاظ خارجة – مشاجرات – نساء – كلمات الحكمة وأخيراً عاش القيصر

علي الرغم مما يدعيه البرنامج من أن كل ما يقدمه حقيقي ، الا أن اللبيب لا يمكنه أن يقتنع بأن كل ما يجري يتم بعفوية ، كما أن العديد من الضيوف لا يحسنون تأدية أدوارهم المرسومة بعناية ، وكذا من الجمهور ، فتبدو الحبكة غير مقنعة ، وهو ما يضطر جيري للتدخل للانتقال الي فقرة تالية
احتفل البرنامج في عام 2006 بحلقته رقم 3000 ، وهو ما يعني أن البرنامج الذي يقدم خمس مرات اسبوعيا أي 300 حلقة سنويا ، منذ عشرة أعوام يكاد يكون أنجح البرامج الحوارية في العالم ، متقدماً علي برنامج أوبرا وينفري الشهيرشعبية مثل هذه تكشف عن أن الدعم الجماهيري الكبير له ، نابع من مبادئ وقيم كانت في عصر بيزنطة القديمة ولا تزال راسخة حتي الآن.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أول خطبة ألقيت بعد تحرير بيت المقدس... عن موقع د. عمر عبدالكافي

من لم يرها لم يعرف عز الاسلام