..سلمة بن الأكوع ..الثالث

جاء في صحيح مسلم عن إياس بن سلمة، عن أبيه أنه قال: قدمت المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت بعد الآذان الأول للفجر مع غلام يدعي رباح بفرس لطلحة أنديه مع الإبل، فما أن وصلنا إلي منطقة تدعي غلس، حتي وجدنا غلاماً يجري صارخاً بأن أحد زعماء قبيلة غطفان ومجموعة من الفرسان أغاروا على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترعي في أطراف المدينة وقتلواً راعيها وخطفوا زوجته وساقوا الابل معهم .

بمقاييس اليوم يكون هذا بمثابة عملية ارهابية قام بها عملاء لدولة معادية ، أو غارة قام بها جيش دولة معادية علي حدود الدولة وقتلوا وسرقوا ثم هربوا.
ماذا سيكون رد الفعل ؟ هل سيتقبل المسلمون اعتذاراً من قبيلة غطفان التي أدانت الحادث ووصفته بالغير مقصود أو غير المتعمد أو حتي الذي قامت به فئة ضالة ؟
هل سينتظر سلمة رد الفعل الرسمي للدولة الاسلامية الوليدة ؟
لا لم يحدث أي من هذا ، لقد تحرك سلمة ذاتياً وكانه يدافع عن ابله التي سرقت وشقيقه الذي قتل وشقيقته التي خطفت.
انطلق سلمة إلي قمة جبل فنادي من عليه " واصباحاه " ، أي ارسل نداء استغاثة ليسمعه كل من في المدينة ليعلموا أن هناك هجوم تعرض له المسلمون ، وارسل الفتي إلي الرسول ليبلغة بتفاصيل الهجوم.
أماالخطوة الثانية فقد أدرك سلمة أنه حتي يمكن تجهيز فريق مطاردة للحاق بالمهاجمين فسيضيع وقت ثمين للغاية ، فكيف السبيل ؟
لقد انطلق سلمة علي رجليه مرة أخري ... لا يقصد هذه المرة رجل واحد يهرب ، ولكن يقصد مجموعة من الفرسان التي أغارت علي المدينة وسرقت وقتلت ، هل فكر للحظة أنه رجل واحد وهم بالتاكيد كثر ؟ والكثرة تغلب الشجاعة ؟ هل فكر بأنه علي ساقيه لن يدركهم وهم علي خيولهم ؟
بالتاكيد لم يفكر بهذا بل انطلق كالسهم ، وبعون الله كان يقترب منهم حتي رأي غبار جيادهم في الأفق فزاد من سرعته حتي رأي الفرسان فتربص لهم واخرج قوسه وسهامه واطلق بسم الله أول سهامه ليصيب أحدهم وقبل أن ينتبهوا كان يصيب ثان وثالث وهنا توقف الركب وأرسلوا أحدهم ورائه ليقتله ، وما أن اقترب الفارس حتي كان سلمة يفر منه ويتواري في الرمال ، حتي ابتعد الفارس ، لكن ما ان عاودوا السير جتي كان يكر خلفهم ويعاود رميهم بالنبال ويصيب منهم الواحد تلو الآخر ، فارسلوا خلفه اثنين ، ففر منهم وتواري حتي ظنوا انه هرب ، ومن ان عاودواالمسير حتي كان يعود ليرميهم من بعيد ، وفي هذه المره ، ادرك قائد المجموعة ان سلمة يريد تعطيلهم حتي يلحق بهم المسلمون فامر اصحابه بان يتركوا ورائهم ناقتين ليلتهي فيهم سلمة ويسرعوا ليسبقوا ويبتعدوا ، لكن سلمة عاد فاصاب منهم بنباله ، وهم يتركون الابل ورائهم ، حتي كان الرسول يصل مع أصحابه ليجد سلمة قد استنقذ الثلاثين ناقة من رجال غطفان الذين تركوا كل مسروقاتهم بل ومن شدة فزعهم كانوا يلقون بعباءاتهم حتي يصير الحمل أخف علي الجواد فتزيد سرعنه ، فالقوا خلفهم ثلاثين برده – وهو ما يدل علي أن عدد المهاجمين زاد علي الثلاثين - بعد أن أثخنوا بالجراح من سلمة ، وفضلوا الفرار بأرواحهم قبل أن يلحق بهم المسلمون وتكون نهايتهم القتل أو الأسر .
ويورد الامام مسلم أن سلمة أدرك القوم، وهو على رجليه، فجعل يرميهم بالنبل ويقول:
خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع ، والرضع تعني الهلاك
فكان يتفاخر بمن هو ومن هو أبوه ، ويمارس ما يطلق عليه اليوم بالحرب النفسية ضد الأعداء ، لاشعارهم بأنهم لا يواجهون مقاتلاً عادياً بل بطل لا يشق له غبار
وفي نفس الوقت يطبق قول الله تعالي ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) فهو ممن أعزهم الله بالاسلام ويفاخر بهذا.
وفي " الصحيحين " : أنهم استنقذوا اللقاح كلها، ولفظ مسلم في " صحيحه " عن سلمة: " حتى ماخلق الله من شيء من لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري، واستلبت منهم ثلاثين بردة".

وفي المدينة بعد أن علم الرسول تردد نداء "يا خيول الله اركبي " الذي يعلن حالة الاستنار العامة ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعًا في الحديد، فكان أول من قدم إليه المقداد بن عمرو في الدرع والمِغْفَرِ، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء في رمحه، وقال: " امض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك " ، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم.
وكان من عادة الرسول اذا غادر المدينة لأي سبب أن يعين من يتولي تسيير أمور الدولة حتي يعود ، مطبقاً أحدث ما تتبناه نظريات الادارة في القرن الحادي والعشرين التي تدعو الي دولة المؤسسات وحكم الشعب لا حكم الفرد ، واللامركزية في اتخاذ القرار ، وكلها كانت بديهيات في دولة الاسلام الأولي الوليدة .
ولم يكن الاستنفار في داخل المدينة فقط بل تدافع الرجال من القبائل المجاورة لها حتي أن بني عمرو بن عوف هرعوا للخروج من ديارهم للحاق بالرسول الذي كان قد غادرها للحاق بالمهاجمين ، وتواصلت الأمدادات ولم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم وعلى الإبل، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بموقع يسمي ذي قرد.

وحينما وصل الرسول والمسلمون إلي ذي قرد كان سلمة قد استنقذ منهم جميع اللقاح وثلاثين بردة.
بطولة أخري لسلمة لا يصدقها عقل ، لكن هل انهي سلمة بطولته باسترداد المسروقات والحصول علي تعويضات أيضا ؟
لا والله ، فما أن أدرك الرسول حتي قال له كما جاء في صحيح مسلم " يا رسول الله ! إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما في أيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم
أي أنه أنهك الفرسان وأنه يريد أن ينطلق ليطاردهم علي رأس مائة من المسلمين فيقضي عليهم ويحصل علي جيادهم كغنيمة اضافية وتعويض للمسلمين
هذا لعمري تلميذ متفوق في مدرسة الرسول ، يطبق بالحرف ان الله يحب اذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ، فهو بعد أن أتم عملاً علي صورة بديعة يواصل التفكير في سبل تحسينه وكيفية تحقيق أكبر استفادة للمسلمين منه
ويواصل الامام مسلم القول " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملكت فأسجح " ثم قال: " إنهم الآن ليقرون في غطفان " .
أي أنك يا سلمة حققت أكثر ما يمكن تحقيقه ، وأن الفرسان قد وصلوا إلي قبيلتهم وأنهم لينامون الآن في ديارهم من فرط الارهاق والتعب
وكمكافأة اضافية لبطل اليوم أردفه الرسول خلفه علي ناقته في طريق العودة للمدينة ، أي أن القائد الأعلي للقوات كرم البطل بأن صحبه معه في طريق العودة ، ولربما كان هذا هو أفضل ما حصل عليه سلمة في يومه هذا

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت