...أمير قرطبة

"... انطلق الجواد شاهق البياض أشهب المعرفة يشق طرقات قرطبة ، وعلي صهوته فارس يقود الجواد بلا سرج ولا لجام ، كان الفارس طويل القامة عريض المنكبين يرتدي زياً ناصع البياض وحرملة خضراء ، وتبرق فوق رأسه خوذته الفضية ..."
هكذا وصف د. نبيل فاروق أمير قرطبة - أو ربما وصف فارس وقال من يراه أنه يشبه أمير قرطبة المغدور – لكنه أبدا لم يقل لنا من كان هذا الأمير ، ربما لعدم أهمية اسمه أو نسبه ، وربما بسبب الخلط التاريخي.
كان أمير قرطبة في عام 633 هـ هو محمد بن يوسف بن هود ، سليل أسرة " بني هود" التي كانت تحكم مدينة سرقسطة منذ دخول الاسلام إليها.
كان "محمد بن هود" جندياً صغيراً من أهل مدينة ( مرسيا) – التي ينتمي إليها أبو العباس المرسي المعروف مسجده بالاسكندرية - في الوقت الذي كانت الاندلس فيه تحت سيطرة دولة الموحدين في المغرب، ولم تكن الأندلس في أحسن حالاتها ، خاصة أن دولة الموحدين كانت في نزعها الأخير في المغرب وتوشك علي السقوط ، فيما كانت دولتي قشتالة وأراجون تتربصان بامارات الأندلس طوال الوقت ، فقد كانت كل مدينة كبيرة تسيطر علي ما يجاورها ، والكل جزر متباعدة ، تكتفي بالولاء الاسمي لسلطان الموحدين.
وحتي يستطيع ( المأمون) سلطان الموحدين التركيز علي جبهته الداخلية بالمغرب عقد اتفاقاً مع فرناندو الثالث ملك قشتالة يتنازل له من خلاله عن بعض الحصون والقلاع في الأندلس ،مقابل أن يعاونه بالجند علي محاربة خصومه.
وهذا هو ما سيتكرر كثيراً طوال تاريخ الأندلس ، وبؤدي للنهاية المأساوية لها.
أثار هذا الاتفاق غضبة الأندلسيين ، ونجح (ابن هود) في جمع الكثيرمن الغاضبين والرافضين لحكم الموحدين تحت لوائه وقام بتمرد نجح في السيطرة علي مدينة ( مرسيا) وطرد الحاكم المعين من قبل الموحدين.
شجع هذا الانتصار (ابن هود) علي الاعلان عن عزمه علي تحرير الأندلس من نير النصاري ،و حكم الموحدين معا ، وكاتب الخليفة العباسي في بغداد ، الذي أقره علي حكم الأندلس ولقبه بالمتوكل علي الله كعادة خلفاء بني عباس في منح الألقاب لولاتهم .
وبهذه الشرعية الجديدة تحرك ( ابن هود) للسيطرة علي المدن الكبري في الأندلس ، فسيطر علي قرطبة عاصمة الدولة ، وطليطلة أهم مدنها ، ثم اشبيلية عاصمة الموحدين ، وأخيراً غرناطة .
واستغل فرناندو الثالث ملك قشتالة القتال الدار بين المسلمين ليغير بقواته علي مزيد من الحصون الأندلسية ويستولي علي بعضها علي الحدود بين الجانبين ، مما دفع ( محمد بن هود) للتوجه من غرناطة في الجنوب إلي شمال قرطبة لمواجهة فرناندو الثالث ، لكنه خسر أمامه واضطر للتراجع ، واكتفي فرناندو بذلك النصر وقفل راجعاً لعاصمته ، وأرسل بعضاً من قواته للاغارة علي قرطبة ، وحدثت المفاجأة الكبري عندما نجحت تلك القوات المحدودة في اختراق التحصينات الشرقية للمدينة، وعلي الفور سارعوا لابلاغ ملكهم بأن قرطبة ما عادت تلك المدينة الحصينة ، وأنهم يحتاجون للتعزيزات علي وجه السرعة .
وما أن بلغه الخبر حتي عاد فرناندو الثالث بجيشه وقد انضم إليه الآلآف ممن عرفوا بوجهته .
في ذلك الوقت كان ( ابن هود ) قد عاد لغرناطة بعد أن تمرد أميرها ( محمد بن الأحمر ) وأعلن عدم خضوعه ل(ابن هود ) ، وأثناء المعركة وصله خبر قيام فرناندو الثالث بحصار قرطبة ، فعاد بجنوده لمواجهة فرناندو.
في داخل قرطبة لم يكن هناك حاكم أو أمير منذ غادرها ابن هود ، الذي شغلته المعارك عن تعيين نائب عليها ، أو ربما خشي من تعيين نائب حتي لا يتمرد عليه. لذا كانت المقاومة نابعة من عامة الشعب ومن رجال الدين ، الذين ضربوا أروع الأمثال في الصمود أمام الحصار الذي فرضه ملك قشتالة منتظرين عودة أميرهم الشرعي ( محمد ابن هود ).
في هذاا لوقت كان ( خايمي ) أمير أراجون يحاول استغلال الفرصة بدوره من خلال مهاجمة مدينة ( بلنسية ) ، فاستغاث أميرها ب(ابن هود ) ليعينه ضد الأراجون ، وهنا كان (ابن هود ) في موقف بالغ الصعوبة ، قرطبة وبلنسية تحت الحصار ، وابن الأحمر يتمرد في غرناطة ، وقواته تحارب منذ ثلاث سنوات ، فماذا يفعل ؟
كان اجتهاده هو أن ( بلنسية) أولي بالعون نظراً لقوة تحصينات ( قرطبة ) وقدرتها علي الصمود لأشهر طويلة ، ومن ثم يمكنه التحرك لطرد الأراجون ، ثم يعود لمواجهة القشتاليين.
وعلي هذا تحرك ( ابن هود ) إلي ثغر ألمرية لنقل قواته بالبحر حتي تصل إلي ( بلنسية) المحاصرة ، لكن في هذه الأثناء كان ضغط الحصار يزداد علي سكان قرطبة بدون أمل في وصول مساعدات أو عون ، وبعد سبعة أشهر من الحصار قرر أهل قرطبة التسليم لفرناندو الثالث ملك قشتالة ، الذي دخل قرطبة يوم الثالث والعشرين من شوال لعام 633 للهجرة.
هكذا سقطت قرطبة عاصمة الدولة الاسلامية في الأندلس ، دون أن يكون أميرها موجوداً ، وبالتسليم بعد أن هلك سكانها تحت الحصار.
أما ( ابن هود ) فخلال وجوده في ألمرية تعرض لمؤامرة من حاكمها ( محمد الرميمي ) الذي اغتاله في 24 جمادي الأولي 635 هـ .
أي أن أمير قرطبة مات غيلة ، لكن ليس في قرطبة ، وليس بأيدي القشتاليين
مات بعد أن ترك قرطبة تواجه مصيرها المظلم – وهو في هذا مجتهد له أجر - ، وعلي يد عربي مثله اغتاله لسبب اختلفت فيه آراء المؤرخين لكن النتيجة كانت واحدة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت