بعض من تخيلنا

قالها نزار وسبقه إليها الكثيرون ، وقالها بعده أكثر
لكن رغم ذلك فإنه لا يوجد من يستطيع أن يعلن للناس الحقيقة الواضحة
" لا يوجد شئ اسمه الحب "
قال علماء وظائف الأعضاء أن الشعور المسمي بالحب هو خليط من تفاعلات كيمائية ونبضات كهربية ، تؤدي إلي مظاهر غير ملموسة ، ومن ثم فإن ادراك حقيقتها يختلف من شخص لآخر ، وبالتالي يكون هناك هذا الخلاف الدائم والهالة البراقة التي تذهب بالأبصار
ولدلالة علي هذا أطرح هذا السؤال ؟
ما هي أكثر الفئات العمرية احساساً بهذا الخليط من التفاعلات ؟
في المركز الأول : المراهقون
في المركز الثاني : طلبة الجامعات والمعاهد
في المركز الثالث : من يعانون من أزمة منتصف العمر
المراكز من الرابع حتي العاشر : باقي البشر
دلالة هذه الاجابة أن الحب هو علاج يسعي إليه البشر لمرض أعجز الأطباء ... مرض الاحساس بفقد الأهمية .
عندما تكون مراهقاً تجد نفسك قد كبرت علي وضع الطفل الذي تحرص عليه أسرته ، لكنك في نفس الوقت لا تزال تحتاج لهم بشدة ، لذا فإن ادراك أهميتك الشخصية يواجه تحدياً كبيراً ، والحل ؟
الحل يكمن في الحكمة القديمة " إن لم تستطع أن تثق بنفسك فلتبحث عمن يثق بك" ، وبالتالي فإن أحسست بالشك في أهميتك يمكنك أن تبحث عن من يحسسك بهذه الأهمية.
لو كنت فتاً مراهقاً ابحث عن فتاة مثلك والعكس صحيح ... وسيكون في هذا الشفاء
فعندما تستيقظ وتنظر لنفسك في المرآة لن تجد وجه الطفل الذي يراك به أفراد أسرتك ، بل ستجد وجه الرجل الناضج الذي تراك به الفتاة التي وجدتها
وعندما تستيقظين وتنظرين في المرآة ، لن تجدي أمامك وجه الفتاة الصغيرة ولا ضفيرتيها أو شعرها المعقوص خلف رأسها ، يل ستحسين أنك صرت محبوبة وملهمة وربما واحدة من آلهة الاغريق ، صحيح أنه لن ينظر إليك بهذه النظرة – إلا لو كان فتاك هو سوفوكليس – إلإ أنك لا تستطيعين إلا أن تصلي بخيالك إلي مرحلة الكمال.
وعندما تمر الأيام وتقفز بكما من المراهقة إلي الجامعة ، سيكون بعض من العوامل الأساسية التي قادت إلي اللمعان الشديد للحب قد خمدت أو فقدت قوة الدفع ، لكن هذا لن يكون مؤثراً في الجامعة ، فهناك قوة دفع جديدة أكبر بكثير ... المحاكاة... الرغبة في أن تصبح مثل باقي زملائك... أنت لست بأقل منهم
كل واحد منهم له صديقة بل ربما صارا أكثر من صديقين ، هل تستطيع أن تتصدي لما يفرضه عليك الوسط المحيط ؟ هل ستتحمل نظرات زملائك وهمزهم ولمزهم علي تصرفاتك ؟ ربما نعتوك بالمتطرف يوماً ، وربما وصفوك يوماً آخر بالأبله أو الرعديد ، حتي الفتيات الذين لم يجدن من يصادقهن وسعين نحوك وتجاهلتهن فسيصفنك بالمتردد أو فاقد الثقة بالنفس.
لن تتحمل هذا ...وبالتالي تخوض مع الخائضين ... وتصبح قشة أخري في مجري التيار
لكن هذه المرة التيار يتجه نحو المصب ... نحو الشلال الذي تتحطم علي صخوره الأمواج
تماما كطائرة توقفت محركاتها دفعة واحدة ...فهوت من حالق
يكون هذا عندما تتوقف كل قوي الدفع ولا تتبقي منها ما يكفي حتي لمجرد الهبوط الاضطراري
عندما ينكشف الغطاء عن العينيين ، وتري الحقيقة كما هي
عندما يقترب الجامعة من النهاية ويصبح عليك أن تحول الصيغة العلنية لهذا الحب إلي اطار شرعي معترف به ، ولكون الخير فينا مهما حاولنا تجاهله ، فإن غالبيتنا يسعون إلي الارتباط الرسمي
وهنا يتعرض الحب لأقوي التحديات ... المال
بداية من الشاب حديث التخرج الذي يبحث عن عمل ولا يزال يتقاضي مصروفه من والده ، ويجد في نفسه الجرأة كي يذهب إلي منزل فتاته ليتقدم لخطبتها
هذا طبعا اذا كان لدي هذا الشاب القدر الكافي من تلك الجرأة التي تمكنه كي يذهب ليواجه محكمة التفنيش التي أصدرت قرار الادانة قبل أن تعرف اسم المتهم
فلو اقمنا تجربة ميدانية لمائة حالة ارتباط جامعي ، ومررنا بهم عبر المرحلة الأولي : هل سيتقدم لأهلها أم لا سنجد أن ربعهم علي الأقل لن يتخذ هذه الخطوة ...سواء لكونه منطقي التفكير يدرك أن زيارة من هذاا لنوع ستكون بمثابة فرصة لذهبية لوالد الفتاة وربما لوالدتها – إن كان والدها من متبغي استراتيجية الأرنب – لتفريغ بعض من الشحنة الهائلة من السخط التي تتولد لديه يومياً في ذلك الشاب الرقيع.
أو لكونه شاب عابث كان هدفه الاساسي تمضية الوقت ،ومن ثم فإن اتخاذ خطوة جدية لا تتناسب مع استراتيجيته.
المرحلة الثانية يصل إليها من تقدم لمواجهة العالم برغبته في الارتباط الرسمي ، وكمكافأة له علي هذه الشجاعة يطلب منه القيام ببعض المهام التي لم يجرؤ أحد علي طلبها من ( هرقل ) في أيام مجده
، ( هرقل ) نظف حظائر الملك التي لم تلمسها يد طوال عشرين عاماً خلال ليلة واحده ، وحرر ( برومثيوس ) من عذابه الأبدي ، لكنه هل كان سينجح لو طلب منه حماه المستقبلي أن يعثر علي وظيفه محترمة ذات مرتب مجزي يكفي لأن يقوم بشراء شقة وتأثيثها ، وبشراء شبكة واقامة حفل زفاف ؟
صحيح أنه ابن ( زيوس ) شخصياً إلا أنه لم يكن ليذهب ليطالب أباه بأن يساعده ، هذا إن كان الأب أصلاً قادراً علي ذلك وهو من المستبعد – طبعاً باستثناء أن يكون الأب من كبار رجال الأعمال أو ممن عملوا بالخارج لفترات طويلة أو ممكن سلكوا مسلكاً غير محمود - ، أما إن كان الأب من الطراز المنتشر الذي يعمل ليل نهار كي يكفي احتياجات بيته ويصل بأسرته إلي شاطئ النجاة ، فمن العار أن يطمع الابن في تحميل ذلك الأب المزيد من الأعباء.
وبكل المعايير يكون الجواب هو ( لا ) ... ربما 2 (لا ) أو 3 (لا )
رد الفعل عند الغالبية سيكون علي عكس المتوقع... التصميم علي اعادة الكرة
من منطلق أن العالم يحارب ارتباطنا وأننا لا بد أن نتصدي للجميع ونقنعهم أن " حبنا أقوي..." والكثير من هذه التعبيرات المستخلصة من أفلام الأبيض والأسود
يكون الدور هنا أكبر علي الفتاة التي تلجأ للعصيان المدني لاقناع أهلها بأنهم أخطئوا ، ويدور صراع بين توازنات القوي داخل المنزل ، يحسم هذا الصراع لو استطاعت الفتاة أن تضم أمها إلي صفها وبالتالي يكون الأب بين المطرقة والسندان وغالباً ما ينتهي به الحال إلي القبول ، ويستغرق هذا وقتاً علي حسب طبيعة شخصية الأب.
وفي الحالتين الرفض ، أو القبول بعد الرفض فإن النتيجة تتشابه...
ففي الأولي يكون الرفض شهادة انتهاء لصلاحية المشاعر التي لم تصمد أول اختبار حقيقي...صحيح أن المال هو اختبار قاسٍ لأي مشاعر ، لكن الرفض لا يتطلب البحث وراء أسبابه ... ومن ثم يدرك الشاب والفتاة أن " الحب لا يكيل إلا بالمال " وينتهي الأمر ، ويبدأ كل منهما – علي حدة – في رسم استراتيجية جديدة تتوافق مع المعطيات الجديدة.
وفي الثانية يجد الاثنان أنهما قد حققا شيئاً لكن استمراره يحتاج إلي ما لا يملكانه... إلي منزل وأثاث وزفاف... باختصار أموال كثيرة
في البداية سيبدأن بمنتهي الحماس ... هو يبحث عن عمل وربما يجده ، وهي تعين نفسها وزيرة للخزانة ومسئولة عن تجميع الأموال والبحث عن بدائل رخيصة للاحتياجات المكلفة
لكن 10% فقط يستطيعون تحمل الضغط الناتج عن هذه التجربة ، والغالبية العظمي تشعر باليأس والاحباط وعدم القدرة علي الاستمرار ، فترفع الراية البيضاء.
وقتها يتجمع الذين أفاقوا علي الحقيقة من كل المراحل ، ويدركوا أن الحياة تسير علي نهج غير الذي ظنوه ، وحتي لا يبقوا كثيراً خارج ذلك النهج يبدأ كل واحد منهم في البحث عن طريق جديد
فمن الشباب من يقرر أن يجعل من عمله الاهتمام الأول فذلك العمل هو الذي سيأتي منه المال ، ومن ثم يستطيع أن يدخل الحلبةمن جديد شاهراً سلاح المال
ومنهم من لا يمتلك نفس القدر من العزيمة فيسعي لحلول أسهل ، بأن يبحث عن عروس تتحمل هي التكاليف ، ومع ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمع صار ذلك الحل أكثر جاذبية ، فتاة لم تصل إلي الثلاثين طلقت ولديها طفل تبحث عن الارتباط من جديد ، وطبعا تنخفض المعايير كثيراً جداً في الزواج الثاني مع الرعب الذي يمثله شبح الفشل الأول والخوف من المستقبل ، وبالتالي فلا مانع من بعض التنازلات وتحمل الكثير الكثير من التكاليف وتغلف هذه التصرفات بالعبارة الشهيرة " نحن نشتري رجلاًَ لابنتنا".
وهناك من تضعف نفسه ويلجأ للصور غير الشرعية للارتباط ، لكن حتي هولاء تصبح تصرفاتهم تلك مخدر سرعان ما يفيقون منه ويعودون لمواجهة الحقيقة المرة.
أما من جانب الفتيات فهن يتميزن بقدر أكبر من الواقعية ، وسرعان ما يصححن موقفهن من بعد الصدمة ، ولهذا طرق عديدة :
فهناك التي تقرر أن المال الذي أجهض حلمها صار هو هدفها الاسمي ، وبالتالي فإن الحصول عليه هو الهدف الأسمي وفي سبيله يمكن التضحية بأي شئ ، وهكذا يمكن أن ترضي بمن يكبرها بعشرين عاماً لكن ماله يخفي عمره ، وهناك من تسعي خلف متزوج يمكن لثروته أن تنفق علي منزلين ، وهناك من ترضي بأول خاطب يوفر لها ماتحتاج دون أن تسئله من أين لك هذا؟
لكن الغالبية تبقي دوما في نسيان الحلم القديم والرضا بمن يستطيع أن يعد بحلم جديد يوماً من الأيام ، من خلال التعاون بين الأسرتين وعمل الاثنين وكدحهما لسنوات قبل الزواج ثم البدء بداية متواضعة ، ولأنه لكل مجتهد نصيب فإن الأحوال تتحسن .
وفي كل تلك الأحوال يصبح الحديث عن الحب غير مقبول علي الاطلاق ، سواء لما يحمله من ذكريات الفشل الأول ، أو لكونه لم يعد له أهمية وأن حياه الواقع تأسست علي قواعد لم يكن هو منها.
وتمر الأيام والسنوات حتي تصل بنا إلي الفئة الثالثة ممن يتخيلون وجود الحب...من يمرون بأزمة منتصف العمر... وببساطة فإن الانسان بعد أن مر بأكثر مراحل حياته صعوبة وربما يكون قد حقق نجاحاً لا بأس به يفيق فجأة علي صدمة جديدة ... أن شبابه قد ولي !!!
ينظر حوله فيري زوجة وأبناء ... وينظر في المرآة فيري الشيب قد غزا شعره أو ما تبقي منه ، ويجد التجاعيد قد استوطنت جبهته وحول عينيه ، ويعرف في جسده ضعفاً لم يعتده
ويصرخ ....!!!
هذا ليس أنا !!!
يرفض الاعتراف بالواقع الجديد الذي أفاق فجأة ليطالعه
وكطبيعة الانسان في العناد يسعي الانسان لينفي لذاته ما حدث لها
وتماماً كما فعل في سن المراهقة ، يفعل في المراهقة الثانية ، لكنه في هذه المرة يبحث عمن يعطيه أملاً في الحياة ... عن فتاة في عمر ابنته أو أصغر ، أو عن فتي في عمر ابنها أو أصغر
وتمتلئ الحياة بعشرات القصص الواقعية عن تجارب من هذا النوع ، ولكن السؤال هنا هو لماذا يقبل الطرف الآخر بتلك العلاقة المحكوم عليها بالفشل ؟
هناك اجابات عدة... هناك الكثير ممن فقدوا آبائهم وأمهاتهم في سن صغيرة ، وبالتالي يكون قبولهم لتلك العلاقة مبني علي الافتقاد للوالد والوالدة
وهناك من أصيبوا بالاحباط بعد الفشل الأول – كما ذكرنا سابقاً – وأصبحت معاييرهم تقتصر علي المال ، وبالتالي فإن وجود المال لدي الطرف الذي يعاني من الأزمة يداري كل المساؤي
وهناك فئة ثالثة تخطط للاستفادة من هذه الأزمة وتحقيق أكبر فائدة ممكنة ن واستخدام أرباح هذه الأزمة لتنفيذ مشروعات أخري
والخلاصة أن الحب في هذه الحالة لا ينشأ عن نزق المراهقة ، بل عن عناد الانسان مع ذاته ، وبالتالي فإن انتهاء طاقة العناد تجعل ذلك الحب يذوب كمكعب ثلج تحت شمس حارقة
الفئة الرابعة والأخيرة ممن يحسون بتلك المشاعر هي ( باقي الفئات الأخري ) أو ببساطة من لم يشملهم العرض السابق ، وهذه هي المفاجأة التي احتفظت بها للنهاية.
الحب كائن مثل كل الكائنات ... يولد ويكبر وينمو ... يمرض ويصح... قد يموت وقد يولد من جديد
هل رأي أحدكم كائناً يولد كبيراً ؟
هل خرج انسان من بطن أمه في الثلاثين من عمره ؟
إن كان هذا غير ممكن ولا منطقي بالنسبة لكل الكائنات ، فلم يصبح منطقياً ولا جدال فيه بالنسبة للحب ؟
لا يمكن أن يولد الحب كبيراً ،،، علي الرغم من كل الهراء الذي تردده الأغاني والأفلام
الحب يولد صغيراً ... والأيام تحكم هل سيكبر أم سيموت
لهذا كان القرآن الكريم يصف العلاقة بين الأزواج بوصف ( المودة والرحمة ) ليس الحب
لأن المودة والرحمة أوسع بكثير من مفهوم الحب الضيق
الطفل عندما يكبر يصبح صبياً ، ثم ينمو ليصبح رجلا
والحب عندما يكبر يصبح مودة ، ثم ينمو ليصبح رحمة
الرحمة هي أعلي درجات الحب بين البشر
أليس دعاء الابن لوالديه اذا بلغا من الكبر عتيا ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) ؟
أليس الأمر الآلهي أن ( نخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) ؟
حب الوالدين هو اسمي أنواع الحب بين البشر ، لأن محبة الابن غرسها ( الرحمن ) عزوجل في قلبي أبويه ، وتستمر تلك المحبة سنوات وسنوات وتنمو وتتعرض للكثير من المواقف التي تصقلها.
ومن ثم فإن الحب الذي كتبت فيه آلاف الأشعار ، وسودت به ملايين الصفحات لا يكون حقيقياً إلا بعدما يكبر
عندما تصبح الفتاة التي أحببتها زوجتك وأم أبنائك وشريكة لحياتك
عندما يكون كل يوم يمر عليكما معا يزيد من حجم المودة والرحمة بينكما
ساعتها لن تصدق أن الحب في الأرض بعض من تخيلنا... ستقول علي من يردد ذلك أنه قضي حياته دون أن يعرف حقيقة تلك المشاعر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت