أهمية أن تكون مهم

منذ نعومة أظفاري لم أحس يوماً أني طفل مهم ، وكان حلمي أن أصبح رجلاً مهماً في يوم ما
والآن وبعد أكثر من عشرين عاماً علي ولادة هذا الحلم ، أعلن بكل فخر أني فشلت في تحقيقه
منذ قديم الأزل – منذ المرحلة الابتدائية – كنت أحس أن كل الأطفال بالغي الانشغال، وفي غاية الأهمية
- " ماهر ...هل تلعب معي حتي تحضر أمي ؟ "
- لا أنا مستعجل... سأركب الدورة الأولي للحافلة المدرسية
- عماد... ألن تلعب معي بعد انتهاء حصص يوم الخميس
- لا أنا مشغول سأذهب لإحضار شقيقتي من المدرسة
- باسم ... لماذا تركض دوما هكذا
- أنا مشغول ... أمي ذهبت للعمل وتركت أخي الأصغر مع جارتنا
قلت ربما أنا أفضل حال منهم ، فأمي لا تعمل ، وشقيقتي الصغرى معي في ذات المدرسة ، وهي أكبر من أن نتركها لدي جارتنا ، كما أن منزلنا قريب للمدرسة ولا حاجة لركوب حافلة
في أيام العطلة الصيفية كان الوضع يزداد سوءًا ... عمار يذهب لقريتهم ويقضي هناك ثلاثة أشهر علي الأقل ، وصلاح ينشغل في العمل في متجر والده – أو علي الأقل يتظاهر بذلك - ، وحتى الشقيقان حسن ومحسن غالبا ما تذهب والدتهما للإقامة عند أهلها فتأخذهما معها
الجميع مشغول وأنا فقط لست كذلك
الكل مهم علي عكسي تماما
قلت هذه مسألة وقت وعندما نصل للمرحلة الثانوية سيختلف الوضع...
لكنني كنت واهماً
فقد كبرنا ووصلنا لسن المراهقة ، ومن هنا ظهرت اهتمامات جديدة لكل واحد منا
عمار صار يحلم في صحوه بأنه سيكون أول طبيب في قريتهم ، وصار حلمه هذا هو الهاجس المسيطر علي حياته ، حتى أنه صار يكتب بخط ردئ عندما قبل له أن غالبية الأطباء رديئوا الخطوط ، كذلك فهو مشغول في المذاكرة والدروس الخصوصية ، وحتى أوقات العطلات يقضيها في التعرف علي أماكن بيع معاطف الأطباء البيضاء ، وأردية العمليات الزرقاء والخضراء ، وأماكن بيع أجهزة قياس الضغط ورسم القلب ، والكشف علي العيون بحيث يكون جاهزاً من اللحظة الأولي
حلم مشروع فلا يمكنني أن ألومه
حسن ومحسن كانا حالة مختلفة ... فحسن كان هدفه خلال مرحلة المراهقة أن يحصل علي صديقة شقراء... وطبعا كان هذا صعباً فنسبة الشقراوات في مصر تكاد تكون منعدمة - لم نكن قد وصلنا بعد إلي مرحلة انتشار تلوين الشعور بين طالبات المدارس الثانوية - ومن ثم كان حسن يقوم بتقسيم أوقاته ( الفراغ والدراسة علي حد سواء ) لزيارة أكبر عدد ممكن من مدارس الفتيات ويتبادل التواجد هناك مع مجموعة من أصدقائه بحثاً عن تلك الشقراء ، ولهذا كان حسن منشغلاً إلي درجة فائقة جعلت والدته تعتقد أنه منضم مدمن أو أنه علي وشك الهرب إلي أفغانستان – كان الهاجس الأكبر وقتها هو الهيرويين والتطرف -
أما شقيقه محسن فكان يحارب الشبح الذي يطارده دوما بأنه الشقيق الأغبي ، وهذا بسبب تخلفه الدراسي الملحوظ الذي دفعه إلي الالتحاق بالتعليم الفني ، ومن وجهة نظري كنت أري محسن أكثر ذكاء من شقيقه ، لكنه لم يكن ميالاً لنوعية التعليم الذي نتلقاه ، كان بارعاً جداً في استخدام يديه وفي تجربة أشياء جديدة ، لكن ما جعله مشغولاً جداً هو نجاحه في الفوز بسباق للركض في مركز الشباب ، ومن ثم تحول مسار حياته إلي كيفية اقناع والديه بأنه أفضل من حسن
- بعد سنوات من معرفتي بالشقيقين شاهدت مسلسلاً يدعي " الجميع يحبون رايمون" يكاد يكون منقولاً بشكل حرفي عن حياة أسرة حسن و محسن –
أما صلاح فكانت له هواية بالغة الغرابة ... كان يدمن التردد علي محطات القطار ... لم يترك محطة قطار علي بعد يقل عن مائة كيلو الا وزارها مرة أسبوعياً علي الأقل ، كان يهوي متابعة القطارات ويستطيع بمجرد سماع الصوت أن يعرف نوع القاطرة وعدد عرباتها وسرعتها القصوى وتاريخ صنعها وبلد الصناعة وما اذا كانت اجريت لها صيانة دورية أم لا ، ونتيجة لتكرار تردده علي محطات السكك الحديدية صار معروفاً بين السائقين والعاملين بهيئة السكك الحديدية وحتي الباعة المنتشرين في هذه المحطات ، وهو ما دفع والده للشك في أنه يسعي للهرب من المنزل واحتراف النشل ، لكن صلاح أثبت أن هوايته تلك كانت دافعه لأن يصبح مهندس ميكانيكا متفوق.
أما أنا فقد كانت هواياتي انطوائية ، وطبعا لكي أوفر علي نفسي الكثير من الشرح أقول أن الهوايات الانطوائية هي المناقض تماما للهوايات الانفتاحية ...
كنت أجيد الرسم ، وكنت أنغمس في القراءة ، ولا أكاد أفضي يوما دون أن ابتاع كتاباً جديداً طالما توافرت الموارد المالية
ولكون الكتاب خير جليس فلم يكن يمانع من أن يطلق سراحي لو جائني صديق كي نلعبالكرة ، أو نذهب لنسبح ، أو حتي نخرج لنركض
ومن ثم كنت اعتبر الكتاب هو السبب الرئيس في كوني شخصاً غير مهم
فهو ليس متسلطاً ، ولا يغضب مني ان تركته ، أو نحيته جانباً ، حتي لو وضعته فوق الثلاجة ونسيته أياماً حتي يعلوه التراب ، كما أنه لا يقابلني بابتسامة غضبي ، ولا بتبرم المستاء لو فضلت عملاً أخر علي القراءة.
باختصار أدركت أن اهتمامي الشديد والمبالغ فيه بالقراءة جعلني شخصاً غير مهم
لذا بدأت أفكر في حل لهذه المعضلة ...وكانت الحلول كثيرة
أولها – وهو الحل الأسهل – أن أتخذ لنفسي هواية من تلك التي يفضلها أصدقائي المقربون... لكني كنت أتميز بخط حسن ومن ثم لن أصبح طبيباً ، كما أني لا أفضل الاقامة في الريف ولا أهتم بأزياء الأطباء
أما موضوع الشقراوات فهو مثير للمشاكل خاصة عندما أري حسن من حين لآخر وقد زينت كدمات سوداء وجهه ، أما الأعمال الحرفية فهي موهبة أري أني لم أولد حائزاً لها
لذا كان علي أن أجد حلاً جديداً
(يتبع )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت