النقض...لكل حكم ثمن


جون جريشام كاتبي المفضل بالانجليزية...ابن عامل البناء الذي لعب كرة القدم وفشل في أن يحترفها ، فدرس المحاسبة ، ثم ملها فدرس القانون وأصبح محامياً ، وعندما لم ينجح بالشكل الذي يرضيه أصبح كاتباً ، رفضت روايته الأولي العديد من دور النشر ، وعندما قبلتها احداهم اكتفت بطباعة 5 آلاف نسخة منها ، لكنه ولدهشتهم الشديدة تحول إلي أهم كاتب في التسعينات وما بعدها حيث باعت رواياته 235 مليون نسخة في مطلع عام 2008 .
تعرفت بجريشام للمرة الأولي عندما قام د.أحمد خالد توفيق بترجمة رواية "صانع الأمطار" ضمن سلسلة روايات عالمية للجيب ، وكانت المرة التي تركت في نفسي أثراً عنيفاً دفعني للبحث عن أصل الرواية بالانجليزية علي طريقة " أخرج من بيتي لأمشط أرصفة الطرقات ، وأطارد وجهك في الأنوار وفي أضواء السيارات " ، وبحمد الله عثرت علي الرواية الأصلية وزاد ولهي بجريشام عندما قرأتها بلغته هو وبأسلوبه هو .
دفعني هذا للبحث عن أعماله السابقة فترصدتها واحدة تلو الأخري ، حتي جاءت فرصة سانحة فابتعت كل ما ينقصني دفعة واحدة ، ومن وقتها أتابع اصداراته وتطور أعماله.
وحقيقة فقد هالني تراجعه الشديد مع مطلع القرن الحادي والعشرين وتردي مستوي أعماله بسبب محاولته الفرار من أسر القانون والمحاماة اللذان يغلفان نجاحه باعتباره أبرز من يكتب " الاثارة القانونية " .
لكن ما أثار اعجابي هو اصرار جريشام علي تغيير جلده بشكل أو بآخر ، فبدأ بالتخلي عن مكان رواياته المفضل في ولايو مسيسبي ، وترك الولايات المتحدة كلها وتوجه إلي البرازيل ليكتب رواية بمذاق مختلف ، عاد بعد ذلك ليكتب رواية اجتماعية عن أعياد الميلاد ، وثالثة اعتبرت سيرة ذاتية عن طفولته ، بعد ذلك اشتاق لجلده القديم فعاد يكتب عن المحاماة والقضايا ، ثم فاجأ الجميع برواية عن البيسبول ، وأخري جمعت بين السياسة والقانون علي أرض غريبة ...في ايطاليا ، وكأنما راقت له ايطاليا فكتب رواية أخري هناك لكن عن كرة القدم الأمريكية ، ثم قدم أول عمل غير روائي عن قصة حقيقية .
وأخيراً عاد جريشام لمنطقة نفوذه برواية جديدة - هي العمل رقم 21 له - انتهي من تأليفها في أول أكتوبر 2007 ، وصدرت رسمياً في الولايات المتحدة في 29 يناير 2008 .
الرواية تحمل عنوان " النقض" ...لكل حكم سعر
بعد خيبة أملي في الروايات الأخيرة لم أكن متحمساً كثيراً لقراءة الرواية ، لكن الأقدار ساقتها إلي دون حيلة مني ...بدأت القراءة علي مهل ودون توقعات كبيرة ، تركتها أياماً لأقرأ "قطعة من أوروبا " ، و" قمر علي سمرقند " ، وأخيراً عدت لأكرس لها وقتي .
كانت مشكلتي مع جريشام أن تصاعد الأحداث عادة يكون مشوقاً ، ومدروساً بعناية ، لكن الختام لا يأتي علي نفس المستوي ، مما يجعل المحصلة النهائية مخيبة بشكل كبير.
وفي رواية " النقض" كاد الوضع يتكرر ، تدرج أحداث مشوق ، خيوط متعددة تتشابك رويداً رويداً ، وحينما تتعقد الخيوط ، يجب أن يخرج المؤلف بالحل العبقري الذي يبرهن للقارئ أنه لم يهدر وقته .
حتي الفصل الأخير من الفصول الأربعين للرواية كان من الممكن أن يصيبني الاحباط ، لكن الفصل الأخير كان بمثابة النهاية التي لم أكن أريدها ، لكنها جعلتني أدرك أن جريشام نجح في هذه المرة في استعادة لمسته الأدبية الساحرة.
الرواية باختصار تبدأ بصدور حكم قضائي بإلزام شركة أدوية بدفع تعويض قيمته 41 مليون دولار لارملة شخص توفي بالسرطان بسبب قيام مصنع للشركة بتلويث مياه الشرب في مدينته ، أدي الحكم لتشجيع العشرات من سكان المدينة علي رفع دعاوي مشابهة مما جعل الشركة علي شفا الافلاس ، لكن صاحب الشركة يتحرك لنقض الحكم ، فمن خلال معرفته بدخائل النظام السياسي الأمريكي يسعي لاختيار قاض ضمن القضاة التسعة الذين سينظرون قضيته ، وفي جملة هامة في الرواية يؤكد أن " لكل حكم ثمن" والمشكلة هي في من يستطيع دفع هذا الثمن.
كعادة جريشام هناك الحرب التقليدية بين داود وجالوت ، الشركة العملاقة التي تمتلك فريق محاميين ضخم ، مقابل أرملة يساندها محام وزوجته اعلنا افلاسهما ، القاضية المساندة لضحايا التعويضات ، مقابل المحامي الذي تم اقناعه بالترشح لمنافستها علي منصبها القضائي والذي تسانده أموال صاحب شركة الأدوية العملاقة.
وبعد سلسلة من الأحداث المشوقة ، والتفاصيل بالغة الدقة التي تم صياغتها بعناية فائقة ن نصل إلي ما كان مفترضاً أن نتوقعه منذ البداية ، المحكمة نقضت الحكم وصار من غير الممكن عمل أي شئ .
ختام الرواية المبهر هو ذلك الحفل الذي أقامه رجل الأعمال لأصدقائه علي متن اليخت العملاق الذي ابتاعه واطلق عليه اسم زوجته التي تصغره بأربعين سنة ، وذلك للاحتفال بنجاحه في عملية الشراء ، شراء حكم قضائي ...فالمشكلة لم تكن أبدا في الثمن ، بل في من يستطيع سداده.
رواية رائعة لجريشام استمتعت كثيراً بقراءتها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت