يوم الاستعراض

كان أول صباح لي وراء المحيط هو صباح عيد الشكر ، وهو عيد ليس له خلفية دينية ، بل يوم يعبر فيه المهاجرون من كافة أنحاء العالم عن امتنانهم لله الذي عوضهم عن أرضهم وبلادهم خيراً
كنت أعرف أن هذا هو اليوم الذي يتم الفتك فيه بجحافل الديكة الرومية التي يسمونها في المشرق العربي بالحبش – شكراً لمجلة سوبرمان اللبنانية خصوصاً قصة الفتي الجبار الذي كان يطهو الحبش لفتيان الاصلاحية بأشعة نظره – وعادة ما تكون مناسبة اجتماعية يجتمع فيها شتات الأسرة ويعود الناس من المدن إلي مسقط رأسهم .
وباعتباري غريب في أرض غريبة لم تكن المناسبات الاجتماعية مطروحة علي جدول رحلتي ، ومن ثم فطنت إلي أن أول أيام الرحلة سيكون عطلة ، ومن ثم فلا بد من البحث عن نشاط يمكن القيام فيه ،خاصة وأن عيد الشكر مناسبة تتعطل فيها كافة المصالح الحكومية وتغلق المحلات أبوابها ، كما أني لم أعبر المحيط كي أجلس في غرفتي بالفندق. بحثت علي شبكة المعلومات الدولية عن شئ مميز لعيد الشكر بخلاف افتراس الديك الرومي فوجدت أن هناك ما هو أهم .
منذ عام 1928 ينظم متجر ميسي استعراضاً ضخماً صباح عيد الشكر يجوب شوارع مانهاتن لمسافة تزيد عن سبعة كيلومترات تشارك فيه الولايات المختلفة والشخصيات العامة وحتي طلبة المدارس ، اذ تقوم كل جهة مشاركة باعداد بالون ضخم علي شكل شخصية تعبر عنهم في العام الجديد - غالبا ما تكون شخصية كارتونية – ويمضون ساعات طويلة في التدريب علي اعداد البالون والتحكم فيه خلال الاستعراض رغم الرياح القوية والعوائق الموجودة في الطريق .
لذا استخرت الله وقررت أن أخرج باكراً حتي أشاهد هذا الاستعراض المشهود ، وفي الثامنة صباحاً كانت فتاة الطقس تؤكد أن الشمس ستكون ساطعة لتوفر رؤية متميزة للاستعراض في جميع المناطق ، ومع ذلك فإن الحرارة لن تتعدي 3 درجات مئوية ، كما أن عامل الرياح سيكون مؤثراً للغاية في الاحساس بالبرودة الشديدة .
عندما وصلت إلي تقاطع الجادة الخامسة مع شارع 52 لم أصدق ما أراه ...كانت الجادة الخامسة بأسرها مغلقة وقد اصطف الآلاف علي حافتي الطريق أمام حواجز رمزية لمنع العبور ، كانت مناسبة أسرية في المقام الأول عدد هائل من الأسر خرجت منذ الصباح الباكر ووسط أجواء شديدة البرودة وقد تدثرت بالملابس الثقيلة لتحجز مكاناً متميزاً يضمن مشاهدة أطفالها للاستعراض دون مضايقة من طوال القامة، الطريف للغاية أن من جاءوا متأخرين قد حملوا معهم سلالم تسمح للأطفال بالرؤية من الخلف ، وكان المشهد مدهشاً جداً أن تري زوج وزوجته يمسكان بالسلم الذي يقف عليه ابنيهما اللذان يحاولان رصد بدأ الاستعراض ولا يكفان عن تخيل وصول البالون الأول.
بلغ عدد من شاهدوا الاستعراض في ذلك اليوم 3.5 مليون شخص خرجوا من بيوتهم بين السابعة والثامنة في درجة حرارة تقارب الصفر المئوي ورياح سرعتها 25 كم / ساعة ، ووقفوا حتي الحادية عشر والنصف التي مر فيها أخر المشاركين ، صرخوا وانبهروا وصفقوا واستهجنوا ولوحوا ، وبكل نظام عادوا إلي منازلهم
في طريق عودتي حاولت صياغة نسخة مصرية من هذا الاستعراض مفترضاً عدم وجود أية اعتراضات عليه من حيث المبدأ من كافة الجوانب ، وتخيلت أن المواطن المطحون يعود لمنزله بعد سبع ساعات من النوم في المكتب وساعتين في المواصلات متأهباً لاجازة 23 يوليو مثلاً ، أكيد أن زوجته ستستقبله بوابل من المشكلات حول سلوك الأولاد والجيران وباعة الخبز والخضراوات ، ومن ثم تضع قائمة مطالب تفوق ما طلبه عرابي من الخديوي ، وبالتأكيد لن يكون الزوج المطحون راغباً في قضاء مزيد من الوقت في هذه المناقشات ومن ثم سيلجأ للهروب الداخلي من خلال مشاهدة مباراة كرة أو النوم ، والخارجي بالفرار إلي المقهي أو شراء شاي من كينيا. وبكل تأكيد سينام متأخراً ويقضي معظم الاجازة في النوم ويستيقظ ليجد أن عطلته انتهت وعليه الاستعداد للذهاب للعمل ولا عزاء للاستعراض.
وحتي ننهي التدوينة بشكل لطيف اليكم بعض صور استعراض متجر ميسي لعام 2008 هنا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت