هل سيغفر الله لنا ؟

أحسست بنوبة شديدة من الحرج خلال حضوري لعرس شخصين لا أعرفهما ، وسبب الحرج لم يكن أني لم أعرف سوي من ذهبت معهم للعرس ، ولا لأن العرس أقيم في قاعة فخيمة تحتل قلب فندق سامق الرقي ، بل لأن مشهداً تكرر مرتين جعلني أواجه هذا السؤال : هل سيغفر الله لنا ؟
كنت أسير علي مهل متوجهاً نحو القاعة التي يقام فيها العرس عندما لمحت طفلة لا تتجاوز العاشرة من عمرها ترتدي ملابس فضفاضة شاحبة الألوان وتغطي رأسها بخرقة متأكلة الأطراف تحمل حقيبة ضخمة تنوء بحملها
كانت تحاول الهرولة خلف ثلاثة أطفال في مثل عمرها وهي تناديهم " تامر بيه...استني يا شادي بيه...ارجعي يا لمياء هانم "
تعثرت الطفلة وهي تركض فسقطت الحقيبة وتطايرت محتوياتها وقبل أن تنهض الطفلة كانت امراة تنهرها في حدة ، بدت تلك المراة في منتصف العمر تضع زينة مبالغ فيها وتغطي جانباً من رأسها بحجاب انزلق خارجه معظم شعرها ، فيما ترتدي ثياباً ضيقة للغاية تبدو أصغر بدرجتين علي الأقل من المفترض
لم يلفت المشهد انتباه احد سواي علي ما يبدو فاعتبرت أنه تمثيل حي لقصة يوسف ادريس القصيرة الشهيرة التي كانت مقررة علينا في الدراسة الثانوية ، وواصلت السير
عندما وصلت إلي القاعة قادنا أحد المنظمين إلي طاولة أنيقة تحمل رقماً يخص أهل العروس حيث جلسنا ، وباعتباري ملول بالفطرة ، لم استطع مع الجلوس صبراً فتسللت من الطاولة لواذاً إلي خارج القاعة ، وفي طريق الخروج وجدت الطفلة تستند إلي جدار يجاور باب القاعة بظهرها وهي لا تزال تحمل الحقيبة ، الجديد كان في وجود نسخة أخري من الطفلة لكن بألوان مختلفة
لم يستوقفني المشهد وفضلت أن أفكر فيه وأنا أتسكع خارج القاعة ، وحالما خرجت وجدت نسخة ثالثة من الطفلة تسير خلف نسخة ثانية من المرأة وأمامهما نسخ أخري من الأطفال البهوات
هنا بلغ السيل الزبي فعدت ادراجي إلي القاعة وتوجهت نحو الطفلتين وسألت النسخة الأصلية :لماذا تقفين هنا ؟ قالت " الهانم " طلبت مني ذلك ، فسالتها من "الهانم" ؟ قالت مدام / فلانة ام فلان بيه وفلان بيه وفلانة هانم التي اعمل لديهم ، التفت إلي النسخة الثانية وكررت عليها السؤال فأجابت بذات الإجابة . وقبل أن أستطرد كانت احدي الهوانم تقترب مني في توجس وتقول : " أهناك شئ يا أستاذ؟" ، قلت : لماذا تقف هاتان الطفلتان هنا ؟
قالت في عدوانية : وما دخلك أنت ؟ أأنت من أمن الفندق ؟
قلت في حنق : دخلي أن هناك طفلتان ستقفان علي قدميهما لساعات طويلة بعد منتصف الليل في حين تجلس أطفال أخري علي المقاعد ، وبالمناسبة أنا مدعو مثلكم بالضبط
قالت وعدوانيتها تتزايد : مالك أنت ومال الخادمات
قلت وصبري ينفد : ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ، ان لم ترغبي في جلوس الخادمة معكم علي نفس الطاولة فعلي الأقل ابحثي لها عن مكان تجلس فيه
بدت السيدة علي وشك الانفجار من ذلك التدخل الغير طبيعي في شئونها الداخلية خاصة وأني مجرد مدعو ولست من أمن الفندق وهمت بقول شئ ، الا أن أحد المنظمين استلفته الحوار فجاء مسرعاً وقاطعها قائلاًً :
يمكنني احضار كرسيين نضعهما إلي جوار الجدار في هذا الجانب المظلم
بدا لي الحل مناسباً خاصة أني لم أكن واثقاً من قدرتي علي التعامل مع " الهانم " باللباقة المطلوبة فانسحبت دون كلمة
عندما عدت إلي الطاولة من جديد لم أكن مهتماً بمتابعة المطرب الشهير الذي حصل علي مرتب موظف كبير في عشرة أعوام نظير غنائه لمدة ساعة ، ولا حتي المأدبة الحافلة التي تكفي لاطعام قبائل دارفور ، فقد شغل تفكيري سؤال واحد : هل سيغفر الله لنا ؟
أرجوكم لا تكونوا مثل " الهانم " وتردوا بالقول " ومالنا ومال الخادمات "
انه مالنا ومالنا ومالنا ونصف أيضا فمن لم يهتم بشأن المسلمين فليس منهم
هذه طفلة لا تتجاوز العاشرة لا يجوز تشغيلها بأي حال من الأحوال ، وفي أسوء الظروف لا يفترض أن تكون بعد العشرة مساءً\ خارج منزلها ، فهاهي ترعي أطفالاً في مثل سنها بل وتخاطبهم بألقاب الاحترام السامية وتحمل لهم أغراضهم ، وتظل منتظرة علي ساقيها إلي ساعات الصباح الأولي حتي تنتهي النزهة الليلية
ماذا ننتظر من هذه الطفلة عندما تصبح شابة وأم ؟ كراهية للمجتمع ونقمة علي من هم أعلي منها ... وهذا مبرر جداً ولا ذنب لها فيه
تذكرت حديث أنس مولي رسول الله صلي الله عليه وسلم عندما قال انه خدم الرسول لسنين فما من مرة زجره ولا وبخه ولا لامه علي شئ فعله
أين نحن من هذا الخلق النبوي الكريم ؟
والأمر لن ينتهي عند هذا الحد ، فهذه الطفلة ونسختيها ليسوا وحدهم ، بل هناك العشرات منهم ، ولربما تأتي واحدة منهم يوم القيامة فتتعلق برقبتي أو رقبتك وتقول يا رب خذلي حقي منه لقد رأني مقهورة مظلومة ولم يعمل علي رفع الظلم والقهر عني
تري هل سيغفر الله لنا وقتها ؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت