الشركة الرائدة

كانت رحلة عابرة لم تستغرق سوي أسبوعين ، لكنها كانت المرة الأولي التي أعبر فيها المحيط منذ فترة لا بأس بها .عبرت المحيط لأجد أن الفارق بين الضفتين قد اتسع إلي حد كبير ليفوق الفجوة الرقمية بينهما ، وهذه بعض الملاحظات التي دونتها حول أمور شتي لا يربط بينها سوي خيط من الحسرة علي ما صرنا إليه :
أولاً : شركتنا الوطنية الرائدة
- بعد أن ملئت السماء باعلانات عملاقة عن انضمامها لتحالف نجم العالمي للطائرات ، وهو ما يساوي الحصول علي شهادة الايزو للمصانع، اعتقدت أن هناك شروط ومعايير صارمة لابد من الوصول إليها للحصول علي عضوية هذا التحالف ، لكن سذاجتي المفرطة انكشفت في أول اختبار لها مع الشركة الرائدة ، واتضح ان تحالف نجم غالبا منتسب لمحمد نجم من حيث الاصرار علي الاستمرار أو في شكل الشعر أو ربما المسرحيات الهزلية ، فالتجربة أثبتت أن الأوضاع لا تزال علي ما هي وان خبراؤنا في الفهلوة قد حصلوا علي كأس الانتاج الشهير الذي كانت صفحات الجرائد تحفل بصور الحاصلين عليه ، مع ابتسامة عريضة من مندوب الحكومة ومن صاحب الشركة.
- استبشرت خيراً عندما انهيت الاجراءات بسلاسة وابتسامة من موظف الشركة وحصلت علي بطاقة البيانات وملئتها ، لكن عندما قدمتها لضابط الجوازات أخبرني أن البطاقة خاصة بالأجانب وعلي العودة للموظف لاستبدالها ، فعدت أدراجي لأعيد الكرة.
- تحدد تذكرة الطيران موعد الاقلاع بالعاشرة والنصف صباحاً وتطلب الحضور قبله للمطار بساعتين علي الأقل ، وباعتباري شخص ناضج وملتزم حضرت في الموعد ، لكن الطائرة لم تقلع في الموعد ، وظللنا داخلها من العاشرة إلا الربع وحتي الحادية عشرة والنصف بدون كلمة من الطيار أو طاقم الضيافة ، وفجأة دبت الروح في الجسد الساكن وتقدم الطيار باعتذار عن التأخير دون أسباب معلنا المفاجأة بان الطائرة ستصل قبل موعدها المحدد علي الرغم من التأخير الذي تجاوز الساعة ، وهو ما جعلني أتأكد من أن كأس الانتاج الذي حصلت عليه الشركة لم يأتٍ من فراغ ، فاذا كانت الرحلة تستغرق احدي عشر ساعة وموعد مغادرتها في العاشرة والنصف ، فبالتالي تصل في الساعة التاسعة والنصف وبحساب أن فارق التوقيت 7 ساعات ، يكون موعد الوصول هو الواحدة والنصف ، فلماذا يدون موعد الوصول الثانية والنصف ؟ وهل من الممكن أن يكون الطيار قد اعتزم أن " يدوس بنزين" حتي يعوض فترة التأخير !
- باعتبار الرحلة طويلة وتتضمن عبور بحر الظلمات ذاته والتوجه إلي زعيمة العالم الحر سولت لي نفسي الظن بأن الطائرة المستخدمة في ذلك ستكون افضل طائرات أسطول الشركة الرائدة ، لكن صدمتي كانت شديدة عندما وجدتها طائرة قديمة تماما كالمستخدمة في رحلات الخليج ، فتساءلت عن الرحلات التي تستخدم الطائرات الجديدة التي نراها في الاعلانات فقط فابتسم جاري في الرحلة بخبث قائلاً ان هذه الطائرات تستخدم فقط في الرحلات التي لا أكون أنا فيها
- كان تعامل طاقم الضيافة مع الركاب ومن بينهم العبد لله ودوداً للغاية لدرجة أني بدأت ألوم نفسي علي تشكيكي في معايير الانضمام لتحالف نجم ، وأن هذه المعايير غالبا تركز علي حسن معاملة الركاب ولا تتضمن دقة مواعيد الاقلاع ، وزاد اغتباطي عندما مرت المضيفة بوجبة الغداء وبدلاً من أن تردد الاختيارين التقليديين " دجاج أو لحم " فوجئنا جميعا بأنها تقول " هل تفضل الجمبري ؟" وعلي الفور سرت موجة من السعادة والحبور علي كافة الركاب وعلي العبد لله الذي ركب طائرات كثيرة من جنسيات مختلفة ولم يسبق له أن تلقي مثل هذا العرض الذي لم يكن من الممكن رفضه ، لكن جاري الأريب نظر للمضيفة في شمم وقال أليس لديكم دجاج ؟ فرمقه الجميع بنظرات تتدرج من الاستهجان إلي الاستنكار إلي الشجب ، فرد عليهم من جانبه بنظرة ماكرة بمعني يالكم من سذج وهل تلقي الحداة بالجمبري ؟ ولقد أكبرت ذلك الجار عندما فضضت غلاف وجبة الجمبري المذكورة لأجد أن هناك ثلاث قطع من منمنمات الجمبري وسط بحار من الأرز ، وبحسرة نظرة إلي جاري الأريب الذي لاك قطعة صدر الدجاج في تلذذ وهو يرمق من حوله بنظرة تقول " أرايتم يا سذج !!! " . وعلي الرغم من ذلك فقد لاقت فكرة تقديم الجمبري في حد ذاتها - بغض النظر عن طريقة التنفيذ وحجم الجمبري - لكن جاري في الرحلة ألمح بخبث إلي أن غالبية ركاب الطائرة من غير المصريين ومن ثم فهناك مقاييس أخري للتعامل ، وأن المحك الحقيقي سيكون في رحلة العودة التي تتزامن مع موسم الأعياد وبالتالي فإن غالبية ركابها سيكونون من المصريين.
- مرت الرحلة بخير وسلام ، وكان الهبوط رائعاً لكن نظراً لكون غالبية الركاب من غير المصريين لم نسمع التصفيق الذي تنفرد به رحلات شركتنا الوطنية وتؤكد لنا أن الصيت ولا الغني
- أما خلال رحلة العودة فكانت آراء جاري الأريب هي المسيطرة علي ، الركاب سيكونون في معظمهم مصريين لذا سيظهر الوجه المصري لتحالف نجم ، وحينما اقتربت سيارة الأجرة التي أقلتني من المطار جعلت انظر لصف الطائرات المنتظرة لعلي المح طائرتنا الوطنية فيطمأن قلبي لكونها لم تصل متأخرة وبالتالي يتأخر الاقلاع ، وكانت معجزة عندما لمحت حورس يزين ذيلها فأثلج صدري ، لكن عندما دلفت إلي المطار وتوجهت إلي المكان الذي يشغله موظفي شركتنا الرائدة لاحظت غياب الابتسامة التي تعلو وجوه كافة العاملين في كل المناطق التي زرتها طوال تواجدي وراء المحيط ، وأحسست أن عملية اعادة التأهيل قد بدأت بالفعل ، لم يكن لدي أي حمولة زائدة أو حقائب اضافية فتمت اجراءات السفر بسلاسة ، لكن الموظف وضع بقلم أحمر علي بطاقة الصعود للطائرة حرف s كبير فسألته عن معناه فقال انه اجراء داخلي لا يعنيني في شئ ، وباعتباري غر ساذج صدقته ، لكن فور أن لمحت ضابطة الجوازات الأمريكية هذا الحرف حتي قالت بأدب شديد : سيدي تفضل بالوقوف خلف هذا الخط ، ونادت أريد من يقوم بتفتيشه ذاتياً !!!
قلت لها في تعجب لقد خلعت الحذاء والحزام وساعة معصمي وتركت هاتفي ومعطفي فلماذا التفتيش ؟ قالت هذا اجراء عشوائي ولا يستهدفك شخصياً ، ولسنا نحن من نقوم بالاختيار ، انها شركتكم الوطنية ، حرف S هذا يعني Selected أي مختار !
كادت تخرج من شفتي سبة قبيحة تنعت الشركة الوطنية بأوصاف أربا بنفسي عن استخدامها في الأحوال العادية ، لكني كظمت غيظي وتوقفت مستسلماً لموظف الأمن الذي فحصني بجهازه ليتأكد من أني لأ أحمل حزاماً ناسفاً أو مسدس بلاستيكي أو حتي مقصات وسكاكين من الطراز المستخدم في خطف طائرات 11/9 وللآسف خاب أمله ولم يعثر علي شئ خاصة وأني قد مررت من البوابة الاليكترونية دون أن يصدر عنها أي اشارة من أي نوع.
توجهت للبوابة 24 التي تتواجد عندها طائرة العودة ، وحسب بطاقة الصعود يتعين التواجد عندها في الخامسة مساءً ، وكانت الساعة قد تجاوزتها بقليل فواصلت مسلسل السذاجة وحثثت الخطي نحوها لكني وجدت حشود الركاب قابعين علي مقاعدهم في انتظار أوامر الصعود ، واستمر الوضع حتي السادسة الا الربع عندما طلب منهم الوقوف في صف واحد واخراج جوازات السفر وبطاقات الصعود لضمان سرعة الصعود ، وهنا قررت أن أتحلي بشئ من الصبر وانتظر جالساً . مرت ربع ساعة دون أن يتحرك الصف وعلت همهمات الاستياء من الركاب فخرج علينا موظف يدعو كبار السن والأطفال للتوجه لمقدمة الصف ، فاستغربت لماذا طلبوا عمل صف منذ البداية ان كان من غير المنتظر الاستفادة منه ؟ بعدها طلب من السيدات أكبر من 40 عاماً التقدم ، وبالتأكيد لم يتقدم أحد ! ومن ثم عدنا لباقي الركاب
صعدت إلي مقعدي في الطائرة في تمام السادسة والنصف أي موعد المغادرة المنتظر ، لكن لم تكن هناك أي بوادر علي قرب حصول ذلك ، وبعد نصف ساعة من الانتظار شنف احد المضيفين آذاننا بصوته الرخيم وهو يقول ان الطيار قد اكتشف عظلاً في جهاز الاتصال مع برج المراقبة وانه تم الاتصال بالمهندس المختص وأنه في طريقه للمطار لاصلاح الجهاز وهو ما سيؤدي لتأخير لن يتجاوز نصف الساعة ، وقبل أن نستوعب الموضوع كان يتحدث بالانجليزية ليقول أن هناك مشكلة فنية تحتاج معالجتها لربع ساعة ! وهنا قال جاري الأريب – وهو بالتأكيد غير جار رحلة الذهاب – أن التفسير الوحيد أن نصف ساعة بالعربية تساوي 15 دقيقة امريكية
وبدون اطالة استغرق اصلاح العطب ساعتان ونصف ، وأقلعت الطائرة في تمام التاسعة مساءًً. انتظرت أن يقول الطيار أن الطائرة ستصل في موعدها المحدد رغم ذلك إلا أنه خيب ظني وقال ان الوصول سيتأخر لمدة ساعة وربع ، وهو ما يعني أن هناك ساعة وربع ناقصة ، تماماً كرحلة الذهاب ، وهو ما أكد لي أن معايير تحالف نجم تشترط وضع هامش تأخير قدره 75 دقيقة لكل رحلة
أما طاقم الضيافة فكان مختلفاً تماماً عن رحلة الذهاب ، السيدات والسادة لا يقل سن أحدهم بأي حال من الأحوال عن نصف قرن ، باستثناء سيدة واحدة تبدو في نهاية الثلاثينات ، وهو ما عرضها لضغوط " المريسة" من باقي أفراد الطاقم ..." نون...احضري مزيداً من القهوة، نون...اريد أكواباً اضافية...نون أين اختفت الملاعق" ، ومعظم هذه الطلبات كانت تأتي من سيدة تبدو قريبة للغاية من سن التقاعد ، ولا أدري كيف سمح لها بمواصلة الضيافة الجوية في هذا السن، وكان لصوتها المرتفع أثر كبير في قبول الركاب لكافة التعليمات التي كانت تلقيها علينا طول الرحلة ن لذا فقد انكمشت في مقعدي عندما اقتربت مني مع وجبة الغداء التي تكرموا علينا بها بعد ساعتين من الاقلاع، وبصوتها الأجش قالت "ماذا تحب أن تأكل يا أستاذ...دجاج؟" وضغطت حروف كلمة دجاج بقوة فانتظرت ان تطرح البديل الثاني فلم تنطق فقلت دجاج أو ماذا ...؟ فنظرت إلي في استهجان وقالت " دجاج أو نبحث لك عن شئ أخر" . تزايد انكماشي في مقعدي وقلت "يكفي الدجاج" لكنها رمقتني بنظرة نارية ونادت علي مضيف أخر يفصل بينها وبينه صف كامل من المقاعد وقالت " هل لديك شئ أخر غير الدجاج" فنظر إليها في تعجب قائلاً " انت تعلمين انه لا يوجد سواه" فكادت تمزق حنجرته بأنيابها لولا وجود ركاب بينهما فالتفتت إلي وناولتني الدجاج فقبلته صاغراً دون أن أنبس ببنت شفة.
بعد الوجبة الممتعة غالبني النعاس لبرهة الا اننا استيقظت مذعوراً علي ضوء المصباح الموجود أعلي مقعدي والذي أضاء ذاتياً فحاولت اطفائه دون جدوي اذ لم يستجب الزر لضغطي المتواصل ن لمحت المضيفة عينها تتحرك خلفي فطلبت منها المساعدة فقالت انها ستطفي امصباح فور الانتهاء من استخراج بعض المتعلقات من اعلي مقعدي وأنها هي التي أضاءته من نقطة التحكم الرئيسية ولن يستجيب لضغطاتي مهما حاولت!
عدت لمحاولة النوم وذلك المصباح يلهب وجهي حتي رق قلبها وأطفئته بعد ربع ساعة.
وكان من رحمة ربي أن غفت عيناي لسويعات مر فيها جل الرحلة واستيقظت علي وجبة الافطار فتناولتها دون أن أعقب أو أبدي أي ملاحظة يكون عقابي عليها اضاءة مصباحين هذه المرة .
وحينما علا تصفيق الركاب فور هبوط الطائرة تأكدت أن الرحلة قد انتهت وأني أكيد أكيد في مصر

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت