أمل ومشاعر

"مشاعر"... هذا هو الاسم الذي منحته إياه جدتها
تلك المرأة التي كانت لها أباً وأماً وعائلة
كان هذا هو اسمها الذي لم تعرف أحداً سواها يحمله
كانت تجذب الاهتمام باسمها ، ولا تكاد تفقد هذا الاهتمام بعد ذلك مطلقاً
فاسمها لم يكن الشئ الوحيد المميز لديها ، كانت بارعة الجمال ...جمال لم تعرف من أين ورثته ، خاصة عندما تري أن جدتها لم تكن مصدراً لتلك العيون ،ولا هذه الملامح.

فتاة لها اسم متميز ، وجمال آخاذ ...فماذا ينقصها ؟
عقل ذكي...كانت هذه هي المفاجأة التي تحتفظ بها للجميع . فالقاعدة تقول أن أجمل النساء هن أكثرهن غباءًا . فليس من العدل أن تكون المرأة شديدة الجمال ،وألمعية الذكاء في ذات الوقت. حتي أن كتب التاريخ عندما تشير إلي امراة جميلة وذكية تعدها من أعاجيب الزمان.
كانت "مشاعر" واحدة من نلك الأعاجيب ولا غرو.
عندما كانت طالبة في المدرسة الثانوية كانت من أوائل الطالبات ليس فقط في الدراسة ، بل أيضا في الرسم والموسيقي وحتي في الرياضة.
كانت محط أنظار الجميع ، وموضع حسد الغالبية العظمي من زميلاتها
لذا كادت تكون بلا صديقة ، تقريباً بلا صديقة من زميلاتها. الوحيدة التي كانت تعتبرها صديقة لها كانت مدرسة شابة تكبرها بأعوام قليلة درست لها الشعر العربي .
كانت بداية الصداقة عندما ذهبت"مشاعر" لها طالبة العون في اعداد بحث عن أهم شعراء الدولة الأندلسية ، وتكررت لقاءاتهما وتوطدت من خلال مناقشة أبيات الاشبيلي وابن هود والرندي.
وكانت نقطة التماس عندما طلبت منها المدرسة أن تلقي في حفل مدرسي أبيات من نونية أبي الطيب الرندي الشهيرة ، فلما قرأت " مشاعر " أول بيت بدأت الدموع تطفر من عينيها ، وما كادت تنتهي حتي أجهشت بالبكاء
لكل شئ اذا ما تم نقصان فلا يغتر بطيب العيش انسان
لم تفهم المدرسة سبب تأثر " مشاعر" الشديد ، واعتبرته من فرط احساسها المرهف
لكن " مشاعر" ذاتها لم تدرك سبباً لهذا التأثر ولتلك الدمعات
وهكذا ظل حالها لسنوات وسنوات ، تعرف فقط أن هذا البيت يبقي قادراً علي استدرار دموعها كلما سمعته.
مرت الأيام وانتهت " مشاعر" من دراستها الثانوية بتفوق كبير ، وكما خططت كانت تلتحق بكلية الاعلام علي الرغم من معارضة جدتها التي رأت في ذلك اهداراً للمجموع الكبير.
لكن " مشاعر" كانت تعرف جيداً ما تسعي إليه.
في الجامعة تكرر سيناريو مشابه للمدرسة
تفوق كبير وحضور طاغي جعلها محط الأنظار وموضع الحسد ، لكن ذكائها المعتاد جعلها تؤثر الابتعاد عن المعجبين والحاسدين ، وتبقي تركيزها محصوراً في دراستها.ٍ
جميلة هي .. لا خلاف علي ذلك
ذكية أيضا... ليس هناك شك
انهت " مشاعر" دراستها في كليةالاعلام ، وكان هدفها التالي هو العمل بالاذاعة
دقيقة هي في تحديد أهدافها
أمضت أياماً تتدرب ،وأياماً تذاكر ،وأياماً تعيش كمذيعة
وجاء موعد امتحان المذيعين الجدد
وقتها كان الممتحنين يجمعون أن وظيفة المذيعة تكاد تكون قد اخترعت كي تناسب قدرات " مشاعر" التي خلبت لبهم.
جميلة هي ...
ذكية هي...
متفوقة هي...
فور بدأت عملها كانت خطوتها كمسيرة يوم لباقي زملائها ، وضعت لنفسها معايير صارمة للعمل ، وللتعامل ...
فهي كما هي ...جميلة ...متفوقة...ذكية
تتجمع الأنظار حولها أينما كانت ووقتما جاءت
لكن ألا يثير هذا اعجاب الرجال كما يثير غيرة النساء ؟
الغريب أن هذا كان يخيف الرجال أكثر من يثير اعجابهم ، فالرجل قد يعجب بالمراة لأنها جميلة أو ذكية ، أو متفوقة
لكن ليس لكونها تملك كل هذه الصفات... فامراة بكل هذه الصفات تصبح كابوساً لأي رجل ...فعندما يجد الرجل المراة الكاملة يصبح مسحوراً بها ، مشدوداً إليها ، غير قادر علي مفارقتها أو منع نفسه من الاحتياج إليها... وعندها يفقد أهم ماتمنحه المراة للرجل...الشعور بأن هناك من يحتاجه بشكل لا حد له.
" ... المراة الكاملة نوع من أشد أنواع الرعب طراً ، فهي فتاة الأحلام التي تملك كل ما تمنيته ، بل تزيدك عليه أشياء لم تعرفها ، ولم تدرك أهميتها ، فقط تحس بضروريتها عندما تتعرف علي تلك الفتاة الحلم.
هنا يكون الكابوس الذي لا فواق منه ، والداء الذي لا علاج له...فلأن هذه المراة الكاملة والفتاة الحلم من شبه المستحيل العثور عليها ، فإن احتمال فقدها يصبح كارثة
هي كابوس لاحتمال أن يكون هذا الكمال مجرد صورة تتبدد وتختفي بعض برهة
وأشد أسباب هذا الرعب أن تكون كاملة حقاً فتكشف للرجل مدي ضآلته أمامها فيكره ذاته ، ويسعي بكل ما أوتي لتشويه هذا الكمال... " .
أدركت " مشاعر" هذا مبكراً جداً ... لكن هذه المره أدركته من خلال جدتها ، هي التي غرست فيها منذ الطفولة تلك المعاني التي صاغتها " مشاعر" بعد سنوات في تلك السطور ، ولكم أثبتت لها الحياة صحة هذا المعني ودقة الكلمات ، وأن الخبرة التي حصلت عليها جدتها بعد أن شابت ذوائبها ، وانحسرت فيها جذوة الحياة ، صارت ملكاً لها وهي لا تزال في ريعان الصبان ، وتلك مزية لا تقدر بمال
هكذا كانت "مشاعر" تقرر منذ بدأ عقلها في النضوج أن هدفها الاسمي في الحياة ألا يكون لها نصيب من اسمها ، أن تحيا بلا " مشاعر" أيما كانت.
نحو أي شخص كان... قريب...زميل...صديق
خلال تلك المرحلة المبكرة كان الصراع مشتعلاً بين جوانحها ، والفرقاء المتشاكسين داخلها
عقلها ضد جمالها... الحسناء المبهرة أمام الذكية المتفوقة ، لم تكن صيغة الحسناء الذكية متاحة في ذلك الوقت
حاولت كثيراً أن تتمرد علي ما يفرضه عليها عقلها ، لكن تلك الثورات المتتالية لم تفلح في ازاحة سيطرة العقل .
لكن تلك السيطرة الشديدة بدأت تتراخي شيئاً فشيئاً مع مرور الأيام ، خاصة بعد أن أصبحت "مشاعر" هي المذيعة رقم واحد بدون منافسة ،وفي أقل فترة ممكنة
كانت ثقتها في نفسها قد بلغت عنان السماء ، وأدركت حينها أن طغيان العقل علي العواطف كان بسبب فرط الخوف من التعرض لصدمات العواطف التي لا فكاك منها
حينما وصلت إلي هذا الاقتناع ، أدرك الجميع من حولها أن "مشاعر" بدأت تكتسب شيئاً من اسمها
وعلي الرغم من ذلك فلم يتشجع أحد علي محاولة التقرب منها
ولكم أثار استغرابها هذا الوضع ، كانت تعتبر نفسها دوما مدينة محرمة علي الرجال ، مختفية في مجاهل الصحراء ، تحيطها أسوار عالية ، تبعد أي متسلل ، وتعيق أي اقتراب ، لكن ماذا بعد أن فتحت المدينة أبوابها ، وأعلنت عن وجودها ؟
لماذا لم يأتي أحد ؟
ذهبت إلي جدتها وبكت علي صدرها ، وحكت لها ما يدور بداخلها ، معتقدة أنها ستلفي كلمات الدعم والتشجيع
لكن كلمات جدتها جاءت صارمة بشكل مخيف ، قالت أن المدينة يجب أن تبقي محرمة ، والأبواب يجب أن تظل موصدة ، والأسوار كما كانت عالية
سألتها لماذا ؟ فكان جوابها بيتاً من الشعر
لكل شئ اذا ما تم نقصان فلا يغتر بطيب العيش انسان
هنا جفت الدموع في مقلتي " مشاعر" وبدا كانها تذكرت شيئاًَ لم يخطر ببالها منذ زمن ، وفجأة عاد الحاكم القديم ليقمع المتمردين ويستعيد سيطرته علي المدينة ، عاد سلطانالعقل ليخمد ثورة المشاعر.
أدرك الجميع مرة أخري أن " مشاعر" عادت لتفقد أي نصيب من اسمها ، عادت لتصبح الآلة العملاقة ، الروبوت الخارق ، الذي يرجع سر تفوقه لافتقاره إلي أهم عيوب البشر ...المشاعر.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت