المنخل اليشكري

في شتاء بعيد في اوائل التسعينات كنت أستذكر دروسي علي صدي هيئة الاذاعة البريطانية عندما استوقفني صوت محمد سليمان وهو يردد بيت شعر استلفتني للغاية : وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري
ياللعجب ، كم هو مرهف الحس ذلك الشاعر الغابر، انه يجعل حبه مصدراً لعدوي الحب لمن حوله حتي أن بعيره يلتقط تلك العدوي ويغرم بناقة محبوبة سيده ، فلو أن شاعرنا كان من عصرنا الحالي لقال وأحبها وتحبني ويحب سيارتها توكتوكي
دفعني هذا البيت للبحث عن قائله خاصة أني لم التقط اسمه من المذياع، وبعد فترة سمعت أحد مدرسي اللغة العربية يردد نفس البيت ناسباً إياه لقيس بن الملوح وهو ما لم يرق لي مطلقاً، فقيس لم يكن يملك هذا القدر من الثقة بالنفس وفي حب ليلي له - ناهيك عن كونها تزوجت غيره - ومن ثم لا يمكن أن يكون قد قال مثل هذا البيت.
وتمر أيام كثيرة تاه خلالها البيت من ذاكرتي حتي لفتني اسم شاعر من أصحاب القصيدة الواحدة - بالمفهوم الحديث يمكن القول علي حميدة صاحب لولاكي وبس - كان اسمه المُنٌخلٌ اليشكري...وما استوقفني هو أن الكاتب قد وضع بين شرطتين لا تعني الغربال !!
قرأت القصيدة وأعجبني جرسها الموسيقي والصور الهزلية اللطيفة التي زينت المعاني العاطفية المشبوبة، حتي كانت اللحظة التي قال فيها وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري...فقلت ها أنت ذا أيها الشاعر المجهول
بحثت بجهد - قبل عصر الانترنت والويكيبديا- عن تفاصيل حول ذلك المنخل وبالكاد عرفت أن جهداً كبيراً قد بذل لمحو كل أثر للشاعر والانسان، فقط صمدت هذه القصيدة وتناقلها الرواة لفائق جمالها وروعتها.
والقصة أن المنخل كان شاباً اجتمعت وسامته بموهبته الشعريه سعي إلي بلاط الملك النعمان بن المنذر ملك الحيرة الشهير حتي يمتدحه لينال من العطايا، وكان له ذلك فصار من ندماء الملك، وتختلف الروايات بعد ذلك في سبب نقمة النعمان عليه ولكن أغلبها تشير إلي ما عرف عن النعمان من غيرة شديدة علي زوجته ماريه بنت الأسود المعروفة بالمتجردة، التي دفعته لاهدار دم شاعره المفضل النابغة الذبياني بعد أن طلب منه أن ينظم قصيدة غزل في المتجردة، ولما سمعها ندمائه قال بعضهم ان من ينظم بهذه الروعة لا يد وأن يكون عاشقاً حقيقياً، فاشتاط غضب النعمان وقرر قتل النابغة الذي لاذ بالفرار.
تشير روايات إلي أن المنخل ذاته هو صاحب تلك الوشاية للتخلص من النابغة أهم منافسيه فأوغر صدر النعمان عليه ، وتشير روايات أخري إلي أنه كان عاشقاً للمتجردة وأشعلت القصيدة غيرته.
وفي المجمل فإن المنخل صار ذو حظوة في بلاط النعمان وصارت له علاقة حميمة باحدي نسائه المتجردة زوجته أو هند ابنته، وفيها نظم قصيدته الشهيرة التي ما أن سمع بها النعمان حتي قضي عليه.
ومجدداً تختلف الروايات فهناك من يقول أن النعمان قد وجده في مخدع المتجرده فأمر به فدفن حياً، وهناك من يدعي بأن النعمان نهشته الغيرة ولم يدرك أن القصيدة مجرد تخيلات لمخمور فأمر بالمنخل فضربت رأسه وأحرق ، وفي الحالتين لم يعثر له علي أثر حتي صار مضرباً للأمثال في الاختفاء وصارت العرب تضرب به المثل في استحالة الاياب. يقول النمر ابن تولب:
وقولي اذا ماطلقوا عن بعيرهم تلاقونه حتى يؤب المنخلِ ( أي في المشمش )
وهكذا كانت نهاية شاعر صرنا نجهل عنه أكثر بكثير مما نعلم

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت