لم تعد كبلادي

بعد عامين في بلدي الأول جاءت التعليمات والأوامر العليا بانتقالي من جديد، وكعادة الخراف المطيعة التي تخشي دوما من فتك الذئب بها، كان لزاما علي أن ألبي النداء وانصاع للأوامر خاصة وأن المدير الكبير يعرف أكثر.
حاشية : أعشق روايتي جورج أورويل : مزرعة الحيوان، و1984 ، قرأت الأولي بالعربية وأنا في الصف الأول الثانوي – مع تحية شكر وتقدير للفتي السخيف حسام الذي استعرتها منه خاصة وأن ثمنها كان " ثمانون قرشاً " – طبعة الهيئة العامة للكتاب- وبعد ذلك سعيت للحصول علي النص الأصلي بالانجليزية، وحاولت بعد ذلك العثور علي ترجمة جيدة لرواية 1984 لكني لم أجد فصبرت حتي ابتعت النص الأصلي بالانجليزية، وفيما بعد أصدر د. أحمد خالد توفيق ترجمة منقحة وبكثير من التصرف كما اعترف هو، وبالرغم من ذلك فهناك العديد من العبارات الخالدة في الروايتين واللتان تصلحان لكثير من المواقف، والتي أسرف في استخدامها خاصة شعار " الخير في الأقدام الأربعة والسوء في القدمين" ، و" الرفيق نابوليون يعرف أكثر" ، و"الأخ الأكبر يراقبك".
بعد عامين عدت فيهما من بلدي الثاني الذي ترك في علامات لن تنمحي ، وظننت خلالهما أنه تحول إلي مركز الكون، لكن بعد عامين من هجره خفتت أهميته ولم يبق لي سوي الفليل الفليل من الأصدقاء صاروا هم جل ما يربطني بأعوام من عمري قضيتها بينهم.
عامين من عمري مرا في مسقط رأسي الذي لم يعد كما كان، فهذي بلاد لم تعد كبلادي، لذا كانت المعاناة أقل في الفراق، فقط الأهل هم سبب اللوعة والحزن، حتي الأصدقاء ما عادوا بمشكلة ولا دافع للتمسك بالبقاء، الكل منشغل ومشغول ولهم عذر، فضغوط الحياة أصبحت لا تطاق، من لا يزال منهم بحريته وبدون قيود الزواج يقتل نفسه بالعمل ليل نهار للادخار حتي يتستطيع شراء القيد الذي سيكبل نفسه به حتي ينتقل إلي الحياة الأخري، ومن هو مكبل بالفعل لا يستطيع التنفس أصلاً وبالكاد يختلس الدقائق لحوار عابر في الهاتف يقنع نفسه خلاله أنه لا يزال نفس الشخص الذي كان في أيامه الخوالي.
وبعيداً عن الأشخاص لا بد وأن أتحدث عن الموجودات والجمادات، لم يعد احساسي بالمنزل هو ذلك الاحساس الخريفي الرائع الذي يغمرني بالطمأنينة، ربما لأن هذا الاحساس كان مبعثه الرئيس هو انعدام المسئولية أو محدوديتها، والركن الشديد الذي اعتدت أن أوي إليه – والدي العزيز- والذي لا يزال ملجأي في كثير من الأونة.
حاشية: أؤمن بشدة بوجود ارتباط فائق بيني وبين أسرتي من النوع المعروف في عالم ما وراء الطبيعة، ومن دلائله أن والدي اتصل بي عبر البحار بعد أن انتهيت من كتابة العباراة السابقة !!! قال أنه أحس فجأة بأنه قلق علي وأني أمر بضائقة ومن ثم اتصل بي حتي يطمئن قلبه...سبحان الله .
ونتيجة لتغير كل شئ صار لزاما علي أن أجد معناً جديداً للمنزل بعيداً السكن والمأوي والملجأ، فقد صار واحداً من عدة جبهات عدة أحارب عليها يومياً، ولنبدأ من حيث البداية :
في الصباح أجاهد للاستيقاظ باكراً رغم أني بالتأكيد أويت إلي فراشي متأخراً لأسباب أوضحها لاحقاً، وبعد الانتهاء علي عجل من طقوس الصباح، أهرع إلي الشارع كي أبحث عن سبيل للوصول إلي عملي، وكي أدفع مسروراً ثمن اختياري لموقع سكني، فعندما قررت أن أسكن في مدينة جديدة كنت أراعي ما سمعته من والدي وعمي عن قراراتهما الرائدة بالانتقال إلي بقاع نائية للسكن ومعاناتهم لسنوات، حتي أصبحت هذه المناطق عامرة بالسكان في قلب القاهرة النابض، لذا قررت أن أسير علي دربهما، منتشياً بالهدوء الذي يعم المدينة، ومقابله صعوبة التحرك منها وإليها، وبعد محاولات استكشافية عديدة أصبح لدي خط سير من ثلاث مراحل قد تزيد إلي أربعة للوصول إلي مقر عملي، الأولي عربة ميكروباص يقودها شخص لا يحمل رخصة قيادة ويقودها بسرعة زائدة حتي يسبق سائقي العربات الأخري ويحصل علي عدد أكبر من الركاب، ويتم هذا السباق علي الطريق الدائري الذي يحوي عدداً من أبرز مواقع الحوادث الضخمة والتي شاهدت يوماً بعد يوم ضحاياها وآثارها علي طرقاته. وبعد الوصول بسلامة الله إلي المنطقة التي يمكن منها رؤية محطة لمترو الأنفاق أسير لدقائق حتي أصلها ومن ثم تحتضنني حشود الركاب حتي تلفظني بصعوبة في محطة الوصول، ومن ثم يكون علي السير لربع ساعة جديدة حتي أصل إلي عملي.
المرحلة الثانية هي العمل ذاته بمشاكله ومديريه وزملائه وليس منها مفر، أما الثالثة فهي مرحلة العودة التي تكون أصعب بكثير من الذهاب بسبب زحام القاهرة المروري والتي تجعل الرحلة تصل إلي ساعتين في المتوسط علي أربع مراحل أو خمس.
المرحلة الرابعة هي العودة للأسرة ومعرفة ما تم ومن تشاجر مع من ومن كسر ماذا، ومن ثم الخوض في الشئون المالية وعجز الموازنة والفارق الهائل بين الايرادات والنفقات، وبالرغم من ذلك تسير الحياة.
وفي نهاية اليوم تكون محاولة النوم، لكنه لا يأتي بيسر لمن انشغل باله بهموم الدنيا، والحل الناجع هو الفرار إلي الله مولانا الحق.
في النهاية فإن هذه الحياة التي تضغط علينا بنواجذها لم تعد حياة، وبالتالي فإن الفرار منها هو الأمل الوحيد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نانسي الحبوبة وشقيقها سلوجو

حجة الحجاج... أحمد بهجت